كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَا نَنسَخْ منْ ءايَةٍ} [البقرة: 6 10] {مَّا يَفْتَح الله للنَّاس من رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] {وَللَّه يَسْجُدُ مَا في السموات ومَا في والأرض منْ دَابَّةٍ} [النحل: 9 4] وقول العرب: هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار اهـ فلا تغفل.
وقال الزمخشري: إنه قال سبحانه: {شَجَرَةٍ} على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحد إلا وقد بريت أقلامًا.
وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤوني رجلًا رجلًا فتأمل، واختيار جمع القلة في {أَقْلاَمٌ} مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله {والبحر} أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الإنهار العظام كدجلة والفرات، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلع {يَمُدُّهُ من بَعْده} أي من بعد نفاده وقيل من ورائه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلًا لا خصوص العدد المعروف كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى: {تلْكَ عَشَرَةٌ كَاملَةٌ} [البقرة: 169] وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقة وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضًا رمزًا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبجر واستعمل فيه أيضًا، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجرة أقلام أن يقال: والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغنى عن ذكر المداد لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الإمداد المستمر حالًا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادًا فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبا لا ينقطع، ورفع على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلامًا في حال كون البحر ممدودًا بسبعة أبحر، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها ** بمنجرد فيد الأوابد هيكل

وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلًا ومعنى جئت وقد اصطفاف الجيش واحد وحيث أن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالًا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالًا ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف، والجملة الإسمية إذا كانت حالًا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال إنها في حكم الظرف.
نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المؤنة، وجوز أن تكون الجملة حالًا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضًا عن الضمير كما في قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} [ص: 0 5] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلامًا حال كون بحرها ممدودًا بسبعة أبحر قال في الكشف: ولابد أن يجعل {من شَجَرَةٍ} بيانًا للضمير العائد إلى {مَا} لئلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بالأجنبي.
وعلى تقدير جعل أل فيه عوضًا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره، وقال الطيبي: إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب.
ورد بأن لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها، وجملة {يَمُدُّهُ} حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلامًا وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحر، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن افضاء المحذوف إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد على المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلًا لثبت وهو مفرد لا جملة، وجوز أن يكون العطف على ذلك أيضًا بناء على رأي من يجعله مبتدأ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير التقدير ولو البحر وذلك على ما قال أبو حيان لا يجوز إلا في ضرورة شعر نحو قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك، وقال بعضهم: إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضًا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل، وجوز كون الرفع على الابتداء، وجملة {يَمُدُّهُ} خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن عشام ولا يخفى بعده، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل: ما المداد حينئذ فقيل: والبحر الخ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود، وما قيل: إنه يقترن بها إذا كان جوابًا للسؤال على وجه المناقشة لا للإستعلام مما لا يعتمد عليه، ومن هنا قيل: الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويًا، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الأعراب أيضًا.
وقرأ البصريان {والبحر} بالنصب على أنه معطوف على اسم أن و{بمده} خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر.
قال ابن الحاجب في أماليه: ولا يستقيم أن يكون {والبحر يَمُدُّهُ} حالًا لأنه يؤدي إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها لبيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي أيضًا إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون {أَقْلاَمٌ} خبرًا له لأنه خبر الأول اه، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون منصوبًا على شرطية التفسير عطفًا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائز، وجملة {يَمُدُّهُ} الخ حينئذ لا محل لها من الإعراب.
وقرأ عبد الله {وبحر} بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جنى على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده الخ، والواو واو الحال لا محالة، ولا يجوز أن يعطف على {شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد.
وفي البحران الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم، وإذا كانت للحال كان {بَحْرٍ} مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات الابتداء بالنكرة كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ** محياك أخفى ضوءه كل شارق

اه ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة {يَمُدُّهُ} في موضع الصفة له لا حال منه؛ وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفًا كما فعل ابن جنى، وقرأ ابن مسعود وأبي {تمده} بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور.
وقرأ ابن مسعود أيضًا والحسن وابن مصرف وابن هرمز {والبحر يَمُدُّهُ} بضم الياء التحتية من الأمداد.
قال ابن الشيخ: يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى.
وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما {والبحر} أي ما يكتب به من الحبر، وقال ابن عطية: هو مصدر {مَّا نَفدَتْ كلمات الله} جواب {لَوْ} وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى: {أَوْ به أَذًى مّن رَّأْسه فَفدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جل شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروم فأنزل سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَن الروح قُل الروح منْ أَمْر رَبّى وَمَا أُوتيتُم مّن العلم إلاَّ قَليلًا} [الإسراء: 5 8] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتنيا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا فنزلت {وَلَوْ أَنَّ}. إلخ.
وظاهر هذا أن اليهود قالوا: ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية، وقيل: إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول: أنها مكية، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرًا كثيرًا لكونه حكمة إلا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عز وجل.
وفي رواية أنه نزل بمكة قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ} الخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتيتُم مّن العلم إلاَّ قَليلًا} أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم: «كلا عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك إن أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية: «هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به نجوتم» قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحكْمَةَ فَقَدْ أُوتىَ خَيْرًا كَثيرًا} [البقرة: 9 26] فكيف يجتمع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وهذا نص في أن الآية مدنية، وقيل: المراد بها مقدوراته جل وعلا وعجائبه عز وجل التي إذا أراد سبحانه شيئًا منها قال تبارك وتعالى له: {كُنْ فَيَكُونُ} (117) ومن ذلك قوله تعالى في عيسى: {وَكَلمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من اطلاق السبب على المسبب، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال: {للَّه مَا في السموات والأرض} [لقمان: 26] وكان موهما لتناهي ملكه جل جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام في المراد بكلماته تعالى إلا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جل شأنه به أهل معصيته من العقاب، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر، وقيل: المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة قال: قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفد فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض من شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلا أنه لا يقتضي كونها مدنية، وإيثار الجمع المؤنث السالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لاشعاره وان اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرًا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير.
وقرأ الحسن: {مَّا نَفدَتْ} بغير تاء {كَلاَمَ الله} بدل كلمات الله {أَنَّ الله عَزيزٌ} لا يعجزه جل شأنه شيء {حَكيمٌ} لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي الا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عز وجل إذ لا يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جل وعلا: كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد.
{إنَّ الله سَميعٌ} يسمع كل مسموع {بَصيرٌ} يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه يبصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جل وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف.
واستشكل كون ذلك مسلمًا بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول: أسروا قولكم لئلا يسمع اله محمد صلى الله عليه وسلم فنزل: {وَأَسرُّوا قَوْلَكُمْ أَو اجهروا به إنَّهُ عَليمٌ بذَات الصدور} [الملك: 3 1].
وأجيب بأنه لا اعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا، وقيل: إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئًا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال: فلأن يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته، والمقصود من إبراد الوصفين إثبات الحشر والنشر لأنهما عمدتان فيه ألا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم.
وأيًا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال: إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا: إن الله تعالى خلقنا أطوارًا نطفة علقة مضغة لحمًا فكيف يبعثنا خلقًا جديدًا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه ابني الحجاج، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل: المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى.
{أَلَمْ تَرَ} قيل: خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وقيل: عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولجُ الليل في النهار وَيُولجُ الليل} أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانًا، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه اخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضًا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم عليه: لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين، ولعل ما ذكرناه أولى لاسيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه: {سَخَّرَ} على قوله تعالى: {يُولجُ} والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {كُلٌّ} أي كل واحد من الشمس والقمر {يَجْرى} يسير سيرًا سريعًا مستمرًا {إلى أَجَلٍ} أي منتهى للجري {مُّسَمًّى} سماه الله تعالى وقدره لذلك، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جري النيرين وتبطل حركتهما إلا في ذلك اليوم، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة سائر الإفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية، وبعضهم يسميها الحركة الغربية، وقيل: ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضًا، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد، وعلى تقدير اختصاصه به صلى الله عليه وسلم يجوز أن تكون حالًا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري اللشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلثمائة وخمسة وستون يومًا بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلثمائة وخمسة وستون يومًا بليلته وخمس ساعات وخمس وخمسون دقيقة واثنتا عشرة ثانية، وعند بعض المتأخرين ثلثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلثمائة وهمسة وستون يومًا بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعًا تامًا إلا أن الروح يجعلون ثلاث سنين ثلثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين وستين يومًا بليلته وأسقط الكسر رأسًا ولجرى القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتاليين {وَأُمرْتُ لانْ} من الأيام ودقائقها ونوانيها تقريبًا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف.